نبوؤة الباركليتيوس الشفيع
جاء في إنجيل يوحنّا: (وأمّا “المعزّي” الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو
يعلّمكم كلّ شيء ويذكّركم بكلّ ما قلته لكم) (14، 26) وفي الإصحاح الموالي: (ومتى جاء “المعزّي” الذي سأرسله أنا إليكم من الأب، روح الحق الذي من عند الأب، ينبثق فهو يشهد لي) (15، 26) وفي الإصحاح الموالي: (لكنّي أقول لكم الحق: إنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم “المعزّي” ولكن إن ذهبت أرسله إليكم) (17، 6).
في معنى “المعزّي”:
الكلمة في النصّ الأصلي لإنجيل يوحنّا باليونانيّة تُرسم: (παρακλητος ) وحيث أنّ القارئ العربي لا يعرف، غالبا، اليونانيّة ثمّ العبريّة، فإنّي سأحاول التبسيط قدر الإمكان وترجمة الحروف اليونانيّة إلى الحروف اللاتينيّة التي يعرفها القارئ بما أنّ الأبجديّة الإنجليزيّة والفرنسيّة منبثقتان منها.وترجمة اللفظة اليونانيّة حرفيّا إلى اللاتينيّة: ( Parakletos ) وحرفيّا بالعربيّة: “باراكلاتوس” وجاءت في كتب التراث العربي: “الفارقليط” وسأفسّر سبب هذا التغيير في الرسم والنطق لاحقا.ولفظة Parakletos تتكوّن من مقطعين: الأوّل (παρα = Para) وتعني (قرب، بجانب، من عند، إضافةً إلى) والثاني (κλητος=kletos) وهي مشتقّة من (καλέω= Kaleo) وتعني (أدعو، أرجو، أطلب، أنادي...) فمعنى الكلمة هو: (الذي أدعوه ليكون بجانب) وهي مستعملة كثيرا في النصوص اليونانيّة القديمة وخاصّة في المجال القانوني بمعنى “المحامي” أو “الناصح”(1) بيد أنّها تأتي في أغلب الأحيان بصيغتها الأولى (παρακαλέω=Parakaleo ) وقد تتفرّع إلى معنى “الشفيع”، “السند”، “المعزّي”، “المُواسي”، إلخ..(2) وقد استعمل فيلون الإسكندري (12 ق.م، 54 بعد الميلاد) لفظة Paracletos في سياق قانونيّ عديد المرّات لكنّه استعملها أيضا بمعنى “الشفيع” في سياق الشخص الذي يتدخّل بين الإنسان والله(3) و“فيلون الإسكندري” رجل يهوديّ يكتب باليونانيّة، ومعاصر ليسوع، وهو يستعمل لفظة Parakletos ليعني بها “الشفيع” ولو فرضنا أنّ “حسب يوحنّا” ترجمها إلى اليونانيّة من كلام يسوع فلا بدّ أنّ يسوع قد نطقها بالعبريّة أو الأراميّة أوّلا بما أنّه هو نفسه يهوديّ ويتكلّم من خلفيّة يهوديّة دينيّة، ولم يكن شخص “المحامي” مشهورا عندهم في الحالات القضائيّة، بعكس الحال عند اليونان، ناهيك أن يستعملوا هذه اللفظة في نصّ دينيّ يشير إلى العلاقة بين الإنسان والله، بل دور “الشفيع” هو المستخدم عادة والمشهور في ثقّافتهم، مثلهم مثل العرب. وما يؤيّد كلامي هو ما جاء في الآية الأولى من الإصحاح الثاني لرسالة يوحنّا الأولى : (يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الأب: يسوع المسيح البار) (1يو، 2،1) فقوله (لنا شفيع عند الأب) موجودة في النصّ اليوناني الأصلي هكذا: παράκλητον ἔχομεν πρὸς τὸν πατέρα parakleton ekhomen pros ton patera=وأغلب الترجمات الإنجليزيّة تترجمها إلى (we have an Advocate with the Father) إلاّ ترجمة Darby فهي تترجمها إلى: (we have a patron with the Father) بينما ترجمة World English Bible تترجمها إلى (we have a Counselor with the Father) وكلّها حسب رأيي لا تترجم المعنى الدقيق وهو معنى “الشفيع” الواضح تماما في هذه الآية والمتّصل مع الثقّافة اليهوديّة الدينيّة، وهو ما نراه في الترجمة العربيّة (سميث-فاندايك) التي تستعمل لفظة “الشفيع” في هذا الموضع، وهذه الترجمة العربيّة هي من أدقّ الترجمات على مستوى العالم، بيد أنّها وكبقيّة الترجمات، ولدافع عقائدي، تستعمل لفظة “المعزّي” حين تترجم الآيات الأخرى في إنجيل يوحنّا، وهي ترجعها إلى الأصل العبريّ (נחם=نحم=واسى) الذي يتكرّر كثيرا في العهد القديم، مثل سفر إشعياء: (عزّوا، عزّوا شعبي، يقول إلهكم) (40،1) وفي الأصل العبري: (נחמו נחמו עמי יאמר אלהיכם = نحمو، نحمو عمي يأمر ألهيكم) وفي ترجمتها اليونانيّة السبعينيّة:(Παρακαλεῖτε παρακαλεῖτε τὸν λαόν μου, λέγει ὁ θεός
Parakaleite parakaleite ton laon moy, legei o theos =) وإن كنّا نلاحظ في الترجمة السبعينيّة أنّ (נחם=نحم) العبريّة (كفعل) قد تُرجمت على أصل παρακαλέω= Parakaleo أي إلى الفعل في طبقته الأولى، أمّا إذا كانت “نعتا” فتحذف منها الألف الثالثة كسفر أيّوب مثلا الذي يقول فيه: (قد سمعت كثيرا مثل هذا، معزّون متعبون كلّكم) (16،2) وأصل الآية العبري:
(שמעתי כאלה רבות מנחמי עמל כלכם=شمعتي كاله ربوت منحمي عمل كلكم) تمّت ترجمة كلمة (منحمي=معزّي) في الترجمة السبعينيّة إلى: (παρακλήτορες=Parakletores ) بصيغة الجمع بطبيعة الحال، وهذا لم يمنع الالتباس في فهم كلمة Parakletos الموجودة في إنجيل يوحنّا، خاصّة إذا ألبسنا الكلمة ثوبا تأويليّا، كاعتبارها تعني الروح القدس مثلا، ممّا أدّى إلى ترجمتها كما هي في بعض الترجمات القديمة، فنجدها في الترجمة اللاتينيّة “La Vulgate” والتي تعود إلى القرن الخامس الميلادي: (Paraclitum) وفي الترجمة السريانيّة “البشيتا” والتي تعود إلى القرن الخامس الميلادي تُترجم الكلمة إلى (فارقليطا) (4) لكن في الترجمة السريانيّة الفلسطينيّة والتي تعود إلى القرن الرابع الميلادي تُترجَم إلى “منحمنا” (5) وهذا الالتباس وعدم وضوح الكلمة أدّى أيضا إلى أن يعتبر “ماني”(القرن الثالث الميلادي) أنّه هو “الفارقليط” المذكور في إنجيل يوحنّا(6) وقبل “ماني” ادّعى شخص آخر من تركيا اسمه “مونتنس” (مولود 160 ميلادي) أنّ “الفارقليط، الروح الحقّ” قد حلّ فيه، وهو مؤسّس مذهب “المونتانيّة” الذي انتشر كثيرا في القرن الثاني الميلادي في الإمبراطوريّة الرومانيّة وتبعه خلق كثير، وأشار إلى أنّ النبوّة لم تتوقّف مع المسيح بل ما زالت متواصلة ويمكن أن ينزل الوحي على رجل أو امرأة، وتبعته امرأتان هما “ماكسيميليا” و “بريسيلا” كانتا قريبتين منه، ثمّ ادّعتا النبوّة أيضا، (مثل مسيلمة وسجاح) وهو الذي نشر مفهوم التثليث في المسيحيّة، على قول “André Wautier” (7) حيث أنّ أوّل ذكر لصيغة “الأب والابن والروح القدس” جاء عند “ترتليانوس” “Tertullianus” (من قرطاج، القرن الثاني الميلادي) وكان يدافع عن المسيحيّة ثمّ اتّبع مذهب المونتانيّة، وهذا موضوع يطول الحديث فيه وليس مقامه هنا.وطلبا للاختصار والتبسيط وكي ألخّص المسألة فإنّ الكلمة تُترجم كالتالي:اليونانيّة: παρακλητος= Parakletos
اللاتينيّة: Paraclitum و Advocatus
العبريّة: מנחם=منحم
السريانيّة: منحمنا وفارقليطا
العربيّة: المعزّي والشفيع
مبشّرا برسول من بعدي اسمه أحمد:جاء في سورة الصفّ: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم مصدّقا لما بين يديّ من التوراة ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحر مبين) (الصف،6) من الطبيعيّ أن تتّجه أنظار المفسّرين إلى الآيات الموجودة في إنجيل “حسب يوحنّا” والتي تتحدّث عن الفارقليط الذي سيأتي، فيقول مقاتل بن سليمان في تفسيره، وهو أقدم تفسير وصلنا (توفّي حوالي 150 هجري) : (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بنى إسرءيل إني رسول الله إليكم مصدّقا لما بين يديّ ( يعني الذي قبلي) من التوراة ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ( بالسريانية فارقليطا ) فلمّا جاءهم ( عيسى) بالبيّنات ( يعني بالعجائب التي كان يصنعها ) قالوا هذا سحر مبين) (8) وجاء في سيرة ابن إسحاق: (وقد كان فيما بلغني عمّا كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله، ممّا أثبت يحنّس الحواريّ لهم، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام في رسول الله إليهم أنّه قال [...] فلو قد جاء المنحمنّا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الربّ، وروح القدس، هذا الذي من عند الربّ خرج، فهو شهيد عليّ وأنتم أيضا [...] والمنحمنّا بالسريانيّة: محمّد، وبالروميّة: البرقليطس) (9) وابن اسحاق عاصر مقاتل بن سليمان، لكن لكلّ منهما مصادر معلومات مختلفة عن الثاني حيث نلاحظ في مواضع كثيرة اختلافا في سرد الأحداث والروايات، ورغم ذلك فهما يتّفقان في هذه النقطة وهي أنّ الفارقليط تعني أحمد، والمنحمنا تعني محمّد.بالنسبة إلى قول ابن إسحاق إنّ منحمنا هي محمّد فهو كلام غير صحيح، حيث أنّ “منحمنا” تعود إلى جذر “نحم” بينما تعود كلمة “محمّد” إلى جذر “حمد” ولا توجد علاقة إيتمولوجيّة بين الكلمتين، اللهمّ إلاّ إذا أردنا أن نركبّهما على بعضهما بصورة اعتباطيّة، كما فعل ابن إسحاق، بسبب وجود الحاء والميم وهذ أمر خارج البحث العلمي.أمّا قول مقاتل إنّ كلمة الفارقليط تعني أحمد، فقد أشرنا في بداية البحث إلى معناها: “المعزّي” أو “الشفيع” ولا علاقة لها بمعنى “أحمد” و “الكثير الحمد” وهو ما يذكره الرازي في مفاتيح الغيب قائلا: (أمّا الفارقليط ففي تفسيره وجهان: أحدهما أنّه الشافع المشفّع، وهذا أيضا صفته عليه السلام [يقصد محمّد] والثاني قال بعض النصارى: الفارقليط هو الذي يفرق بين الحقّ والباطل وكان في الأصل فاروق كما يقال راووق للذي يروق به وأمّا “ليط” فهو التحقيق في الأمر كما يقال شيب أشيب ذو شيب، وهذا أيضا صفة شرعنا لأنّه هو الذي يفرق بين الحقّ والباطل) (10) ولم يخطئ الرازي في تفسير معنى الفارقليط بالفاروق حيث أنّ كلمة Paraklitos اليونانيّة وجدت لها جذرا في السريانيّة أثناء الترجمة وهو جذر “فرق” فأخذت دلالة جديدة تضاف إلى الدلالات القديمة وهو أمر منتشر في تداخل المعاني في الترجمات القديمة، بيد أنّ الرازي يفسّر كلمة “الفارقليط” بالشفيع ويتجاهل المعنى الآخر، وهذا مفهوم، حيث أنّه يعتبرها نبوءة عن النبيّ محمّد فأخذ التفسير الذي يوافق غرضه، بما أنّ محمّدا في المفهوم الإسلامي هو شفيع أيضا، وترك التفسير الثاني ولا أظنّه يجهله، لكن المشكلة هنا أنّ الآية في القرآن تتحدّث عن معنى“أحمد” لا عن معنى “الشافع”.وقد ذهب “يوسف علي” إلى أنّ كلمة الفارقليط تعني فعلا “أحمد” واقترح تخريجة لغويّة ذكيّة تستحقّ النظر إليها وهي كالتالي: لفظة Parakletos تعني “المعزّي” أو “الشفيع” حقّا لكن يوجد تحريف في الكلمة الموجودة في إنجيل يوحنّا وأصلها الصحيح هو: Periklutos وتعني “المشهور” و “المحمود” وبالتالي تعني “أحمد” وقد وردت هذه الكلمة (Periklutos) في الإلياذة والأوديسة لهوميروس بهذا المعنى (11) وكما نلاحظ فإنّ هذه التخريجة تعتمد على أنّ اليونانيّة تُكتب بلا حروف مدّ، أيّ أنّ الكلمة تُرسم بهذه الطريقة: Prklts ويمكن في هذه الحالة أن نقرأها بمعان مختلفة، كقولنا مثلا : (قتل) في العربيّة القديمة حيث يمكن قراءتها (قاتل) أو (قتال) أو (قتل) حسب المعنى، لكنّ اليونانيّة ليست لغة سامية وتُكتب فيها الكلمات بجميع حروفها كما أنّه وبمراجعتنا للمخطوطات القديمة قبل الإسلام وجدنا أنّ الكلمة كانت فعلا Parakletos ويمكن الاطّلاع على المخطوطة السينائيّة (codex sinaticus) للقرن الرابع الميلادي(12) والمخطوطة الإسكندرانيّة (Codex Alexandrinus ) للقرن الخامس الميلادي(13)
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يذكر القرآن أنّ عيسى بشّر بشخص اسمه أحمد إن لم يكن فعلا يعتمد نصّا دينيّا قبله وإلاّ فيمكن تكذيبه بسهولة من معاصريه المسيحيّين ؟
موقع المخطوطة السينائيّة: http://codexsinaiticus.org/en/manuscript.aspx?book=36&chapter=16&lid=en&side=r&verse=7&zoomSlider=0
(13-) موقع المخطوطة الإسكندرانيّة:http://www.csntm.org/Manuscripts/ManuscriptViewPage.aspx?id=203
بسم الله الرحمن الرحيم ((وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ (13-) موقع المخطوطة الإسكندرانيّة:http://www.csntm.org/Manuscripts/ManuscriptViewPage.aspx?id=203
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9 الصف)
0 التعليقات:
إرسال تعليق